د/علاء أبوضيف Admin
عدد المساهمات : 2263 تاريخ التسجيل : 29/11/2008
| موضوع: طـَارق بـن زيـَاد. السبت أكتوبر 30, 2010 5:49 pm | |
| جلسَ أفرادُ الأسرةِ، كعادتهمْ مساءَ كلِّ يومٍ، حولَ (التِّلفزيون)، وكان المذيعُ يقولُ في نشرةِ الأخبارِ:- إنَّ حاملةً
للطَّائراتِ عبرتْ مضيقَ جبلِ طارقِ.
وقطعَ الهدوءَ صوتُ حيّانَ يقولُ لأبيه:- يا أبتِ، لماذا سمِّي هذا المضيقُ والجبلُ
باسمِ طارقِ؟ ومنْ يكونُ طارقُ هذا؟
الأب:- أغلقِ (التِّلفزيون) وأنصتْ مع إخوتك إلى الجوابِ.
والتفَّ الأبناءُ الثَّلاثةُ:- (حيّانُ وعبيرُ وحازمٌ) حولَ أبيهمْ، وتركت (أمُّهم) تهيئةَ العشاء، وجلستْ معهم ينصتونَ
بشوقٍ ولهفةٍ إلى أبيهم الَّذي تابعَ حديثهُ فقالَ:-يفصلُ مضيقُ جبلِ طارقٍ بين قارتي إفريقية وأوربة،
ويصلُ بين المحيطِ الأطلسيِّ والبحرِ المتوسِّطِ، وقد أطلقَ على الجبلِ - الَّذي يقعُ (جنوب إسبانية) -
وعلى المضيقِ اسمُ فاتحِ الأندلسِ القائدِ المسلمِ (طارقِ بنِ زيادِ).
حازم:- أرجو أن نتحدَّثَ عن شخصيَّةِ طارقِ، ولمَ أطلقَ اسمهُ على الجبلِ والمضيقِ؟
الأب:- كان (طارقُ بنُ زيادٍ) من إحدى قبائلِ البربرِ في الشَّمالِ الإفريقي.
اعتنقت أسرتهُ (الإسلامَ)، ونشأ في بيئةٍ إسلاميَّةٍ وحسنتْ لغتهُ العربيَّةُ، وكانَ من رجالِ والي إفريقيةَ
(موسى بن نُصيرٍ)، الَّذي عرفَ فيه استقامةَ الخلقِ، وشدَّةَ المراسِ، وسدادَ الرَّأيِ وقوَّةَ الجسمِ، وبعدَ النَّظرِ.
فكان من أقربِ قادتهِ إليه، يعهدُ إليه بأخطرِ المهمَّات.
ويكفيه أن يُعرفَ بلقب فاتحِ الأندلس.
عبير:- حبَّذا لو تُعطينا - يا أبتِ - فكرةً عن طارقٍ قبل فتحهِ للأندلس. الأب:- كان والي إفريقيا (موسى بنُ نُصيرٍ)، الَّذي وصلَ بفتوحاتهِ في الشَّمالِ الإفريقيِّ إلى المحيطِ الأطلسيِّ،
وعيَّن (طارقَ بنَ زيادٍ) حاكماً لمدينةِ طنجة.
بدأ طارقٌ يرسِّخُ أقدامهُ في تلك المنطقةِ من المغربِ المطلَّة على المضيقِ الذي سيحمل اسمهُ.
وكانوا يطلقون عليه اسم بحرِ الزُّقاق.
حيَّان:- أسمعنا - يا أبتِ - فنحن بلهفةٍ لمعرفةِ أخبارِ اجتيازِ طارقِ لهذا المضيقِ، فكيف تمَّ له ذلك؟
الأب:- إنَّها مغامرةٌ خطيرةٌ في وقتٍ لا زالتْ فيه إمكاناتُ العربِ المسلمين البحريةُ محدودةً.
أقامَ طارقٌ علاقاتٍ طيِّبةً مع حاكمِ مدينةِ سبته - الرُّومي يُليان - المجاورِ له على السَّاحلِ المغربي والَّذي كان
معادياً لحاكمِ الأندلسِ وناقماً عليه.
وقد استفادَ طارقٌ من معلوماتِ يُليان ومن سفنهِ، لكنَّه كان حذراً في تعاملهِ معه خوفاً من غدرٍ أو مكيدةٍ.
عبير:- هل كان طارقٌ على رأسِ المتقدِّمين لفتحِ الأندلسِ؟
الأب:- طارقٌ - يا بنيتَّي - قائدٌ ذو خبرةٍ بالحروبِ، ولهذا لم يغامرْ بجيشهِ مباشرةً،بل بدأ بعمليَّةِ استطلاعِ
حيث أرسلَ القائدَ الشَّابَّ طريفاً مع قوَّةٍ تتألَّفُ من(مائةِ فارسٍ، وأربعمائةٍ) من المشاةِ، أنزلتهمُ السُّفنُ
في أقصى الجنوبِ الغربيِّ من الأندلسِ وقد حمل ذلك الموقعُ اسمَ طريف في الجهةِ المقابلةِ لمدينة طنجة.
وعاد طريفٌ ليرفعَ إلى طارقٍ تقريراً عن أوضاعِ المنطقةِ الَّتي تجوَّلَ فيها مع كلِّ المعلوماتِ الَّتي تُهمُّهُ
عسكريّاً، وبناءً على هذه المعلوماتِ تابعَ طارقٌ تنفيذَ خُطَّةِ فتحِ الأندلس.
حازم:- لماذا فكَّرَ(طارقُ بنُ زيادٍ) بفتحِ الأندلسِ؟
الأب:- لم يكن فتحُ الأندلسِ من تفكيرِ طارقٍ، بل هو جزءٌ من خطةٍ كبرى للفتوحات التي تَبنَّتها وخطَّطتْ لها
رِئاسةُ الدَّولةِ العربيَّةِ الإسلاميَّةِ في دمشق؛ فقد كان الخليفةُ الأمويُّ (الوليدُ بنُ عبدِ الملكِ) يعملُ على تنفيذِ خطَّة
واسعةٍ، يتابعُ فيها مسيرةَ الفتوحاتِ الأولى، فكانتْ جيوشهُ تعملُ على جبهاتٍ في الشَّرقِ، حيث وصلت إلى
أرضِ الصِّينِ، كما وصلت إلى شبهِ القارَّةِ الهنديَّةِ، وها هي جيوشهُ في الغربِ تصلُ إلى بحر الظُّلماتِ -
المحيطِ الأطلسيِّ - وما فتحُ الأندلسِ إلاَّ حلقةً من هذهِ الحلقاتِ، للوصولِ بدعوةِ الإسلامِ إلى شعوبِ
تلكَ البلادِ.
عبير:- هل نزلَ طارقُ بقوَّاته في المكانِ الَّذي نزل فيه طريف؟
الأب:- لا.. فقد اختار منطقةً مناسبةً أخرى تِبعاً للمعلوماتِ الَّتي حملها إليه طريفٌ.
لقد نزلَ طارقٌ في أقصى الجنوبِ الشَّرقيِّ من الأندلسِ، عند الجبلِ الَّذي حملَ اسمهُ،
و المطلِّ على المضيقِ الَّذي حمل اسمهُ أيضاً فسِّميَ بمضيقِ جبلِ طارقِ.
حازم:- كم كان عددُ قوَّاتِ طارقِ؟ وكيف انتصر في الأندلس؟
الأب:- كان معَ طارقِ في حملتهِ على الأندلسِ (سبعةُ آلافِ) مقاتلٍ معظمهمْ من البربرِ. الَّذين أسلموا حديثاً،
وهم ينتظرون الفرصةَ ليثبتوا حُسنَ إيمانهمْ بجهادهمْ في سبيلِ اللهِ. واتَّجه طارقٌ نحو بحيرةٍ تسمى بحيرةَ
(لاخندا) ويمتدُّ إلى جانبها وادي لكَّة حيث جرتْ المعركةُ الفاصلةُ بينهُ وبين حاكمِ القوط لُذريق - والقوطُ هم
سكَّانُ إسبانية أو الأندلس - وكانَ مع لُذريق أكثرُ من (سبعينَ ألفاً) من الجنودِ، وبلغ عددُ جيشِ طارقٍ بعدَ
وصولِ مددٍ من موسى بن نصيرٍ إليه حوالي (اثني عشر) ألفاً.
حيّان:- أرى أنَّ هناكَ فارقاً كبيراً بين الجيشين في العددِ، فكيف انتصرَ طارقٌ رغمَ قلَّةِ عددِ جنودِهِ؟
الأب:- كان طارقٌ يعتمدُ على حماسةِ جنودِهِ، وتدفقِ الإيمانِ في قلوبهمْ، مما جعل معنوياتُهم عاليةً جدّاً، كلِّ
منهم يطلبُ النَّصرَ أو الشَّهادةَ. وحاولَ طارقٌ أن يزيدَ في حماسةِ جنودهِ بخطابٍ دفعهم فيه إلى الاستبسالِ
وطلبِ الشَّهادةِ.
عبير:- ما هي أهمُّ النِّقاطِ الَّتي تعرَّضَ إليها طارقٌ في خطابِهِ؟
الأب:- حذَّر طارقُ جنودهُ من التَّهاونِ، وذكَّرهم انَّـه لا نجاةَ لهم إلاَّ بالنَّصرِ، فالعدوُّ أمامهم والبحرُ وراءهَم،
وأنَّـه لا مؤونةَ لهم إلاَّ ما يستخلصونهُ من عدَّوهِمْ، وذكر لهم خطَّةَ النَّصرِ، فقال:- إنَّـه سيحملُ بنفسهِ على
لذريقَ طاغيةِ القومِ حتَّى يقتله إن شاءَ اللهُ، وطلب منهم أن يحملوا معه، فإن هَلكَ قبلَ أن يحقَّقَ غايتهُ فليتابعوا ما
عزمَ عليهِ وليقتلُوا لذريق.
وأخبرهمْ أنَّـه إن قُتلَ فإنَّ القوط سيفرُّونَ ويُخذلون.
حازم:- سمعتُ مرَّةً أنَّ طارقَ بنَ زيادٍ أحرق السُّفنَ ليزيدَ حماسةَ جنودِهِ في القتالِ.
فهل تؤيِّدُ هذا الرَّأيَ - يا أبتِ -؟
الأب:- الذين كتبوا عن فتحِ الأندلسِ انقسموا إلى قسمين:- منهم من قال بإحراقِ السُّفنِ، ومنهم من
رفض هذا الرَّأيَ.
أما إذا كنتم تريدون رأيي فأنا مع منْ قال بأنَّ طارقَ بنَ زيادٍ لم يحرقِ السُّفنَ، وهي وسيلةُ اتِّصالهِ بساحلِ
المغربِ، وهو بأمسِّ الحاجةِ إليها وربَّما يكونُ قد أوحى لجنودهِ بذلك، ولم يكن مكانُ المعركةِ قريباً
من البحرِ ومن السُّفنِ.
حيّان:- أريدُ أن أسمعَ منكَ شيئاً عن المعركةِ الفاصلةِ بين طارقِ ولذريق.
الأب:- استلَّ طارقٌ سيفهُ وتقدَّمَ جنودهُ وهو يصيحُ: اللهُ أكبرُ... اللهُ أكبرُ، ولحقَ به جنودهُ كالصَّواعقِ، وحدثت
المعجزةُ في معركةِ وادي لكَّة فقد انتصر اثنا عشر ألفاً على جيشٍ قدَّرتهُ الرَّواياتُ المختلفةَ بين سبعين ألفاً إلى
مائةِ ألفٍ ونجحَ طارقٌ بهجومه على لذريق، وبِمقتلِهِ تزعزعَ جيشُ القوط، وبدأ الآلافُ يُولّون الأدبارَ. وكانت هذه المعركةُ الفاصلةُ في 28 رمضان سنة 92 هـ.
عبير:- ماذا فعلَ طارقٌ بعد معركةِ لكَّة؟
الأب:- رغم قلَّةَ عددِ جنودِ طارقٍ، فإنَّه لاحقَ فلولَ جيشِ لذريق، ومما ساعدهُ على سرعةِ الحركةِ أنَّ جنودهُ
ازدادوا قوَّةً وتسليحاً بعد معركةِ وادي لكَّة، لأنَّهم غنِموا أسلحةَ أعدائهمْ، وأصبحوا جميعاً من الفرسانِ لكثرةِ ما
غنموا من الخيولِ. وتهاوتْ مدٌن إسبانيَّةٌ وقلاعُها أمامَ ضرباتِ قوَّاتِ طارق.
حازم:- سمعتُ في إحدى النَّدواتِ التَّلفزيونيَّةِ أنَّ خلافاً وقع بين موسى بنِ نُصيرٍ وطارقِ بنِ زيادٍ، فهل حدث
ذلك فعلاً؟ وإن كان قد حدث فلماذا؟
الأب:-موسى وطارق قائدان عظيمان، كانا يعملان في سبيلِ هدفٍ واحدٍ، وعقيدةٍ واحدةٍ، وجاهدا معاً في سبيلِ
اللهِ، فإن اختلفا فهما من البشر، ويمكنُ أن تختلفَ وجهاتُ النَّظرِ، كما تختلفُ أحياناً أنتَ مع أخيكَ، وربَّما كانت
لموسى وهو القائدُ العامُّ وِجهةَ نظرٍ لم يتقيَّدْ بتنفيذِها طارقٌ خلال عمليَّاتِ الفتح، ممَّا اقتضتهُ ظروفٌ معيَّنةٌ، إنَّ
اختلافهما لم يصلْ إلى ما وصفهُ بعضُ المؤرِّخين من سوءِ معاملةِ موسى لطارقٍ، إنَّهما اجتمعا في الأندلسِ
عندَ مجيء موسى مع قوَّاتٍ جديدةٍ (18 ألف مقاتل)، وقد عاتبَ موسى مولاه طارقاً، لأنَّه أسرعَ بالفتح، وتوسَّعَ
في الأندلسِ بقوَّاتٍ قليلةٍ، والبلادُ واسعةٌ، وجيوشُ الأعداءِ جرَّارةٌ، فالعتبُ والتَّأنيبُ كان من موسى
(خوفاً على المسلمين)، وهو المسؤولُ عنهم أمامَ الخليفةِ، والدَّليلُ على صحَّةِ ذلكَ أنَّ موسى أبقى طارقَ بنَ
زيادٍ في قيادتهِ للجيش، ثمَّ تابعا الأعمالَ العسكريَّةَ معاً.
حيَّان:- كيفَ كانت نهايةُ طارقِ بنِ زيادٍ؟
الأب:- استدعى الخليفةُ (الوليدُ بنُ عبدِ الملكِ) القائدينِ موسى بنَ نُصيرٍ وطارقَ بنَ زيادٍ إلى عاصمةِ الخلافةِ
دمشقَ، ولم يلبثْ أن وافتهُ المنيَّـةُ، وخَلفهُ أخوهُ سليمانُ، فأصابَ قائدينا العظيمين موسى وطارقاً الإهمالُ وسوءُ
المعاملةِ، كما حدثَ لغيرِهمـا منْ كبارِ القادةِ، ولم يذكر التَّاريخُ ما يشفي الغليلَ عن نهايةِ القائدِ البطلِ
طارقِ بنِ زياد.
ويكفيهِ أنَّ الواقعَ جعلَ اسمهُ في مكانٍ لا تمحوهُ الأيَّامُ، حينَ أُطلقَ اسمهُ على مضيقٍ يُعدُ من أهمِّ مضائقِ
العالمِ وأشهرها.
الأمّ:- نختتِمُ أُمسيةَ اليومِ بكلمةٍ أُحبُ أن أُلخِّصَ لكم فيها بكلماتٍ معدودةٍ شخصيَّةَ طارقِ بنِ زياد، فهو قائدٌ
عصاميٌّ، حملَ رايةَ الإسلامِ، وفتحَ أرضَ الأندلسِ، وحرَّر شعبَ القوطِ من العبوديَّةِ والظُّلمِ، وهيَّأ لازدهارِ
الحضارةِ العربيَّةِ الإسلاميَّةِ في تلكَ البلادِ لمدَّةِ ثمانيةِ قرونٍ، ويدورُ اسمهُ اليومَ، في كلِّ لغةٍ وفي كلِّ بلدٍ، حينَ
يُذكرُ مضيقُ جبلِ طارقٍ.
فجزاهُ اللهُ خيرَ الجزاءِ، عنِ العربِ والإسلامِ والحضارةِ الإنسانيَّة.
| |
|